النظرية الثقافية الاجتماعية هي إحدى النظريات الناشئة في علم النفس، وتسلط الضوء على الدور الحيوي الذي يلعبه المجتمع في دعم نمو الفرد. تركز هذه النظرية على العلاقة الديناميكية بين تطور الفرد والثقافة التي يعيش ضمنها، وتقترح أن التعلم الإنساني هو في جوهره عملية اجتماعية نشطة.
وقد تم تطوير هذه النظرية على يد عالم النفس الروسي الشهير ليف فيجوتسكي، الذي اعتبر أن الوالدين، ومقدمي الرعاية، والأقران، وكذلك البيئة الثقافية الأوسع، جميعهم يساهمون بشكل مباشر في بناء الوظائف العليا للعقل البشري.
تُعنى النظرية ليس فقط بتأثير المحيطين على تعلم الفرد، بل تتناول أيضًا كيفية تشكيل السلوكيات والمعتقدات الثقافية لطريقة التعليم واكتساب المهارات.
ليف فيجوتسكي (Lev Vygotsky)، عالم نفس روسي بارز.
تخرج في جامعة موسكو عام 1917، حيث درس الفلسفة وعلم النفس.
حصل على درجة الدكتوراه في علم نفس الفن من جامعة موسكو.
توفي عام 1934 بسبب مرض السل، بعد أن ترك إرثًا علميًا بالغ الأثر في مجالات التربية وعلم النفس.
خلافًا لمعظم علماء النفس في عصره، تناول فيجوتسكي النمو الإنساني بشكل شامل من الولادة وحتى الوفاة، دون حصره في مرحلة عمرية محددة.
طرح عدة طرق لدراسة تطور التفكير، أبرزها:
إدخال عوائق تعيق الحلول التقليدية للمشكلات لتحفيز التفكير الإبداعي.
تقديم مساعدات خارجية متنوعة لدعم حل المشكلات.
تكليف الأطفال بمهام تفوق مستواهم الحالي لتحفيز النمو المعرفي.
أدت نتائجه إلى دعم فكرة وجود "نظرية التوسيط" في النمو المعرفي.
يرى فيجوتسكي أن الأطفال يكتسبون المعرفة من خلال استخدام الرموز مثل اللغة، أثناء تفاعلهم مع بيئاتهم الاجتماعية. كما اعتبر أن الإنسان طور أدوات نفسية مثل الكتابة وتقنيات تعزيز الذاكرة للتحكم في سلوكياته، مؤكدًا أن نقل المعرفة يتم عبر التفاعل الاجتماعي أكثر من اعتماده على النمو العصبي البيولوجي.
بحسب فيجوتسكي:
المفاهيم التلقائية: تنبع من خبرات الطفل الذاتية.
المفاهيم العلمية: تعتمد على التجريد والحقائق المنظمة.
وكلما تم تبني المفاهيم العلمية، أصبحت المفاهيم التلقائية أكثر دقة وعمومية. وركز فيجوتسكي على خمس وظائف معرفية رئيسية: اللغة، التفكير، الإدراك، الانتباه، والذاكرة، معتبراً أن اللغة هي الأداة الأكثر أهمية في التميز البشري.
أكد فيجوتسكي أن الأطفال يكتسبون المهارات العقلية تدريجيًا، وأبرز مفهومه الشهير "منطقة النمو القريبة"، وهي المسافة بين الأداء الفردي الذاتي والأداء بمساعدة الآخرين. اعتمد هذا المفهوم لاحقًا في استراتيجيات الدعم التعليمي مثل "التسقيل" (Scaffolding).
يعتبر فيجوتسكي اللغة الركيزة الأساسية للنمو المعرفي، حيث تحرر الأطفال من قيود البيئات المباشرة. وقسم تطور الكلام إلى ثلاث مراحل:
الكلام الاتصالي: للتفاعل مع الآخرين.
الكلام المتمركز حول الذات: يستخدمه الطفل لنفسه.
الكلام الداخلي: الشكل الداخلي المترسخ للكلام الذاتي.
رغم وجود بعض أوجه التشابه بين نظريتي فايجوتسكي وبياجيه، إلا أن هناك اختلافات رئيسية:
فيجوتسكي شدد على أهمية الدعم الاجتماعي في التعلم، بينما اعتقد بياجيه أن النمو يحدث طبيعيًا مع الحد الأدنى من التدخل.
بياجيه أصر على ترتيب مراحل النمو بشكل ثابت، بينما رأى فايجوتسكي أن الترتيب قد يختلف بين الأطفال.
تفسيرهما للكلام المتمركز حول الذات اختلف، حيث اعتبره بياجيه سلوكًا غير ناضج يختفي لاحقًا، بينما اعتبره فيجوتسكي أساسًا للكلام الداخلي.
يعمل المعلم كـ"سقالة معرفية" لدعم تعلم الطلبة دون إفراط في التدخل.
يجب أن تركز عملية التعليم على منطقة النمو القريبة لكل طالب.
مراعاة اختلاف مستويات الخبرة بين الأطفال وشركائهم في التعلم.
تعزيز العلاقة التعاونية بين المتعلمين لتحقيق الاعتماد المتبادل.
استخدام التعليم التبادلي لتحسين استراتيجيات الاستيعاب القرائي.
تقديم المهارات والمعارف عبر مراحل متعددة لضمان التذويت الكامل.
تشجيع الأطفال على مواجهة المفاهيم العلمية باستمرار لصقل مفاهيمهم التلقائية.
تلخص نظرية فايجوتسكي التعلم باعتباره عملية اجتماعية بنائية نشطة، وليست مجرد استقبال سلبي للمعرفة. حيث يندمج التعلم ضمن شبكة من العلاقات الثقافية والاجتماعية، ما يؤكد أن المعرفة تُكتسب وتُبنى عبر الخبرة والتفاعل لا بالانعزال. ويبرز دور المجتمع والتفاعل الثقافي كركيزة أساسية لنمو التفكير وتطور الوظائف المعرفية العليا.